شاعرنا الشطري المبدع مع الجواهري الكبير |
بقلم غالب الشابندر
ا لشعر تجربة قبل كل شي في تصوري ، تجربة كلية يعيشها الشاعر ، فتتحول إلى صورة ورؤية ، ومن هنا كان من الشعر حكمة كما يُنقل عن النبي الكريم صلى الله عليه و آله وسلم ، الشاعر الذي لا ينطلق من تجربة حية ساخنة تأتي صوره باهتة ، عابرة ، لا تلبث أن تغادر عالم الحلم والخيال مجرد أن تنتهي من قراءتها ، وتجدب رؤيته عند حدود الفكرة العارية من ثراء الفكر . وقد يرى بعضهم أن التجربة هنا معاناة فلسفية ونفسية عميقة ثرية بقراءة التاريخ وظاهرة الوجود، في حين لا أرى ذلك ضرورة ، بل هي تجربة الحياة العادية ، المشتقة من أبجديات الحياة ، من سقطها وفتاتها وهوامشها ، فأن المهم هنا ليس مفردات التجربة بقدر ما هو التفاعل مع التجربة بروح شفافة ، وعاطفة جياشة ، وقلب متحرق ، فأن كثيرا من البشر قد يعاني من الحياة الكثير، وقد يتواصل معها بمساحة هائلة من الوقائع والصور الساخنة الملتهبة ، ولكن يبقى سادرا في غياهب الذات الجلدة ، ولم تحرك فيه هذه التجربة الغنية نبض الحب ، ولا نبض الشعور ، ولا نبض المسؤولية .
خالد الشطري شاعر تجربة ، تجربة ليست عميقة بذلك المعنى الفلسفي الجبار ، ولا هي عميقة بذلك التصور التاريخي الكبير ، بل بمعنى الشأن اليومي ، الشأن الذي يعنيني ويعني أغلب البشر ، شأن الفلاح الذي يتغذى صاحب الاقطاعي على دمه ، وشأن العامل الذي يحترق زنده طاقة ليستغلها صاحب المصنع الجشع، و شأن الجندي الذي يقدم روحه فداء للوطن وشأن المحب العاشق الولهان الذي يمارس الحب ببراءة وشفافية .
شعر خالد الشطري هذه هي هويته ، الشأن اليومي ، وتجربة الشأن اليومي تحمل فلسفة من نوع آخر ، لا تصل بأصل الوجود ، ومحنة الإنسان في سياق قصة الخلق ، ولكن تتصل بكفاح الإنسان من أجل الحياة ، الحياة بالمعنى البسيط ، المعنى العفوي ، تتصل بهمومنا اليومية ، هموم الوطن، والعيش ، و الحب ، و الهجر ...
يتحدث عن محنة شاعر :
عرف الناس والحياة فأبكى تارة أهلها وأضحك تارة
يهب الحب وهو يبحث عنه وهو يضفي على الجماد نضاره
ويشيع السرور وهو كئيب دامع الطرف حارق أفكاره .
هذا اللون من الشعر يعبر عن تجربة مأساوية ، تجربة تشتبك بقضية إنسانية وأن كان بطلها الشاعر ، تجربة التناقض في متن الحياة الاجتماعية ، فما ذنب هذا الشاعر الذي يهب الحياة للجماد يتحول إلى نصيب مهمل في متن الحياة ؟
هناك سؤال يجول في تضاعيف الشعر هنا ...
ولكن سرعان ما يعالج الموقف بالأمل ، نُقلة من اليأس إلى الأمل ، وهذه النقلة لم تكن مصممة من قبل ، بل مخاض عسير ...
أيها الشاعر المعذب مهلا أن يأس الأديب يعني احتضاره
أنت للشعب لا لذاتك فأرجز شبح اليأس واحتقر أسواره .
هل هي تجربة أم رؤية كان قد أشتقها من حركة التاريخ والطبيعة ؟
مها قلنا ، فإن الشأن اليومي هو الذي يوجه القصيدة هنا ، فالأمل واليأس قضايا يومية نعيشها في حياتنا ، تعترينا وتتصارع في داخلنا جميعا .
على أن الأمل في شعر خالد يأخذ مديات واسعة من مشاعره وتطلعاته ، وهو مما يكشف عن تفاعل الشاعر الجدي مع الحياة ، رغم قصر ذات يده !
يقول :
وعد ت للحياة من جديد
في نظرتي أمل
في خطوتي أمل
في ساعدي عمل
في فمي نشيد
هذه الكلية تشي بحس كلي ، تشي بتعاطي كلي مع كل قضية يتناولها في شعره ، وربما تعامله الكلي مع الجسد الإنساني له أثر في ذلك ، فقد كانت مهنته مصورا شمسيا ، يصور الذات البشرية من خارجها ، بكلها ، برمتها ، مما قد يولد في داخله نزعة التعامل الشامل مع موضوعاته الشعرية . ولكن في سياق فطري ، مشتق من الحس العام ، من تعايشه مع بسطاء الناس ، وهمومهم اليومية .
على أن الشاعر الشطري لم يعدم رؤية في شعره ، له أكثر من رؤية ، ولكنها الرؤية الخاطفة ، التي تقدح في الذهن كالضوء ، حادة ، سريعة ، بعيدة عن التفاصيل ، ومن هنا تتمتع بصدق وحرارة وحيوية ، وفي كثير من الأحيان تتفوق الرؤية الخاطفة على الرؤيا المفصلة ، تتفوق عليها بالدقة والعمق والحساسية .
يقول مثلا :
حقيقة الشاعر لا يراها إلاّ الذي في قلبه بصيرة .
فهي رؤية سريعة ، تنم عن أحساس عميق بالحياة ، ولا أنكر أن التجربة ظاهرة فيما يقول الشاعر ، ولكن نلمح أيضا فكرة خاطفة ، تضع بين أيدينا حقيقة ، وليس وصفا .
كان مغرما بأشياء الشأن اليومي ، المنجل ... المطرقة ... الخبز ... الناعور ... يلونها بدم جروحه المعنوية ، يسعى وراءها ليستضيفها في شعره ، جواهر ... بنيات ... تكوينات ...
يقول :
ألف .. ألفِ .. ألفِ شهيد
كي تسعد الرِّموش الحوالم
كي يغني الصباح
لميلاد عصفور
لضحكة ناعور
لانتفاضة معول
والتماعة منجل
للربيع القادم
لربيع الجياع
صناع هذا العصر
للخبز و الفكر
ولي الفخر أن أقول بأني
أنا من هذه المرابع الخضر
صناع هذا العصر ...
الطبيعة والإنسان والتاريخ ، أشياء تحضر في قصائد المرحوم خالد لتؤسس مركب من الحضور لتؤسس الصورة الفنية .
لقد أبتعد عن التجريد ، عن الصور الفكرية التأملية الحالمة ، وأنغمس في عمق المأساة ، مأساة الإنسان العراقي ،الذي كان يعاني من القهر والجوع والحرمان والظلم ، شاعر المحنة ، شاعر الوجع ، وإن كان يسرِّي بفن بارع الفرح في أوصال الحزن .
يقول :
نعم يا حلوة الضفيرة نعم أنا الشاعر يا صغيرة
نعم أنا المعدم غير أني أمتلك الخزائن الكبيرة
فسلفتي موهبتي ضميري أسمى من المكاسب الحقيرة
هذه هي فلسفته ، الحياة المعنوية ، خزائنه تلك التجربة الحيوية التي تحول الصحراء إلى ماء وعشب ، ترمم الجروح الروحية ، ترطب الحزن بشهقة الأمل الحارة . والشاعر ينطلق من واقع ، من شاهد عيني ، وهذا ما يؤكد كونه شاعر الشأن اليومي
يقول :
وكم من أمير مترف تمنى وصالها فأدبرت نفوره
وصال الشعر ، وصال الكلمة عندما يحررها من سجنها القاموسي ويدخلها في عنفوان الحياة الخصبة ، فيشعل شموع من روحه للمعذبين في الأرض .
رحم الله الشاعر خالد ، والبركة فيما خلف من فن رائع جميل .
الشكر الجزيل لمن اسس هذه المدونة التي تغني للشطرة ومبدعيها في زمن صمت المؤسسات الحكومية الشطرية...
ردحذفاعتقد ان القائمين على هذه المدونة يستحقون منا وقفة وفاء وشكر نظير وفائهم لمبدعي الشطرة ...
تحياتي ...
مؤيد بلاسم
الاستاذ والاخ الغالي مؤيد تحياتنا لكم ويشرفنا كلامكم الجميل والذي يحملنا مسؤولية اكبر نسأل الله ان نكون كما تظنون بنا اعزائي وشكرا لتعاونكم الذي نتمنى ومتأكدون بأنه سيستمر دائما لما فيه خير المدينة واهلها ونشر تراثها وابداع نخبها وابنائها ...
ردحذفتقبل محبتنا وتقديرنا العالي