ا لشعر تجربة قبل كل شي في تصوري ، تجربة كلية يعيشها الشاعر ، فتتحول إلى صورة ورؤية ، ومن هنا كان من الشعر حكمة كما يُنقل عن النبي الكريم صلى الله عليه و آله وسلم ، الشاعر الذي لا ينطلق من تجربة حية ساخنة تأتي صوره باهتة ، عابرة ، لا تلبث أن تغادر عالم الحلم والخيال مجرد أن تنتهي من قراءتها ، وتجدب رؤيته عند حدود الفكرة العارية من ثراء الفكر . وقد يرى بعضهم أن التجربة هنا معاناة فلسفية ونفسية عميقة ثرية بقراءة التاريخ وظاهرة الوجود، في حين لا أرى ذلك ضرورة ، بل هي تجربة الحياة العادية ، المشتقة من أبجديات الحياة ، من سقطها وفتاتها وهوامشها ، فأن المهم هنا ليس مفردات التجربة بقدر ما هو التفاعل مع التجربة بروح شفافة ، وعاطفة جياشة ، وقلب متحرق ، فأن كثيرا من البشر قد يعاني من الحياة الكثير، وقد يتواصل معها بمساحة هائلة من الوقائع والصور الساخنة الملتهبة ، ولكن يبقى سادرا في غياهب الذات الجلدة ، ولم تحرك فيه هذه التجربة الغنية نبض الحب ، ولا نبض الشعور ، ولا نبض المسؤولية .

خالد الشطري شاعر تجربة ، تجربة ليست عميقة بذلك المعنى الفلسفي الجبار ، ولا هي عميقة بذلك التصور التاريخي الكبير ، بل بمعنى الشأن اليومي ، الشأن الذي يعنيني ويعني أغلب البشر ، شأن الفلاح الذي يتغذى صاحب الاقطاعي على دمه ، وشأن العامل الذي يحترق زنده طاقة ليستغلها صاحب المصنع الجشع، و شأن الجندي الذي يقدم روحه فداء للوطن وشأن المحب العاشق الولهان الذي يمارس الحب ببراءة وشفافية .
شعر خالد الشطري هذه هي هويته ، الشأن اليومي ، وتجربة الشأن اليومي تحمل فلسفة من نوع آخر ، لا تصل بأصل الوجود ، ومحنة الإنسان في سياق قصة الخلق ، ولكن تتصل بكفاح الإنسان من أجل الحياة ، الحياة بالمعنى البسيط ، المعنى العفوي ، تتصل بهمومنا اليومية ، هموم الوطن، والعيش ، و الحب ، و الهجر ...

يتحدث عن محنة شاعر :

عرف الناس والحياة فأبكى تارة أهلها وأضحك تارة
يهب الحب وهو يبحث عنه وهو يضفي على الجماد نضاره
ويشيع السرور وهو كئيب دامع الطرف حارق أفكاره .

هذا اللون من الشعر يعبر عن تجربة مأساوية ، تجربة تشتبك بقضية إنسانية وأن كان بطلها الشاعر ، تجربة التناقض في متن الحياة الاجتماعية ، فما ذنب هذا الشاعر الذي يهب الحياة للجماد يتحول إلى نصيب مهمل في متن الحياة ؟
هناك سؤال يجول في تضاعيف الشعر هنا ...
ولكن سرعان ما يعالج الموقف بالأمل ، نُقلة من اليأس إلى الأمل ، وهذه النقلة لم تكن مصممة من قبل ، بل مخاض عسير ...
أيها الشاعر المعذب مهلا أن يأس الأديب يعني احتضاره
أنت للشعب لا لذاتك فأرجز شبح اليأس واحتقر أسواره .
هل هي تجربة أم رؤية كان قد أشتقها من حركة التاريخ والطبيعة ؟
مها قلنا ، فإن الشأن اليومي هو الذي يوجه القصيدة هنا ، فالأمل واليأس قضايا يومية نعيشها في حياتنا ، تعترينا وتتصارع في داخلنا جميعا .
على أن الأمل في شعر خالد يأخذ مديات واسعة من مشاعره وتطلعاته ، وهو مما يكشف عن تفاعل الشاعر الجدي مع الحياة ، رغم قصر ذات يده !

يقول :

وعد ت للحياة من جديد
في نظرتي أمل
في خطوتي أمل
في ساعدي عمل
في فمي نشيد

هذه الكلية تشي بحس كلي ، تشي بتعاطي كلي مع كل قضية يتناولها في شعره ، وربما تعامله الكلي مع الجسد الإنساني له أثر في ذلك ، فقد كانت مهنته مصورا شمسيا ، يصور الذات البشرية من خارجها ، بكلها ، برمتها ، مما قد يولد في داخله نزعة التعامل الشامل مع موضوعاته الشعرية . ولكن في سياق فطري ، مشتق من الحس العام ، من تعايشه مع بسطاء الناس ، وهمومهم اليومية .
على أن الشاعر الشطري لم يعدم رؤية في شعره ، له أكثر من رؤية ، ولكنها الرؤية الخاطفة ، التي تقدح في الذهن كالضوء ، حادة ، سريعة ، بعيدة عن التفاصيل ، ومن هنا تتمتع بصدق وحرارة وحيوية ، وفي كثير من الأحيان تتفوق الرؤية الخاطفة على الرؤيا المفصلة ، تتفوق عليها بالدقة والعمق والحساسية .

يقول مثلا :

حقيقة الشاعر لا يراها إلاّ الذي في قلبه بصيرة .
فهي رؤية سريعة ، تنم عن أحساس عميق بالحياة ، ولا أنكر أن التجربة ظاهرة فيما يقول الشاعر ، ولكن نلمح أيضا فكرة خاطفة ، تضع بين أيدينا حقيقة ، وليس وصفا .

كان مغرما بأشياء الشأن اليومي ، المنجل ... المطرقة ... الخبز ... الناعور ... يلونها بدم جروحه المعنوية ، يسعى وراءها ليستضيفها في شعره ، جواهر ... بنيات ... تكوينات ...

يقول :

ألف .. ألفِ .. ألفِ شهيد
كي تسعد الرِّموش الحوالم
كي يغني الصباح
لميلاد عصفور
لضحكة ناعور
لانتفاضة معول
والتماعة منجل
للربيع القادم
لربيع الجياع
صناع هذا العصر
للخبز و الفكر
ولي الفخر أن أقول بأني
أنا من هذه المرابع الخضر
صناع هذا العصر ...

الطبيعة والإنسان والتاريخ ، أشياء تحضر في قصائد المرحوم خالد لتؤسس مركب من الحضور لتؤسس الصورة الفنية .
لقد أبتعد عن التجريد ، عن الصور الفكرية التأملية الحالمة ، وأنغمس في عمق المأساة ، مأساة الإنسان العراقي ،الذي كان يعاني من القهر والجوع والحرمان والظلم ، شاعر المحنة ، شاعر الوجع ، وإن كان يسرِّي بفن بارع الفرح في أوصال الحزن .

يقول :

نعم يا حلوة الضفيرة نعم أنا الشاعر يا صغيرة
نعم أنا المعدم غير أني أمتلك الخزائن الكبيرة
فسلفتي موهبتي ضميري أسمى من المكاسب الحقيرة

هذه هي فلسفته ، الحياة المعنوية ، خزائنه تلك التجربة الحيوية التي تحول الصحراء إلى ماء وعشب ، ترمم الجروح الروحية ، ترطب الحزن بشهقة الأمل الحارة . والشاعر ينطلق من واقع ، من شاهد عيني ، وهذا ما يؤكد كونه شاعر الشأن اليومي

يقول :
وكم من أمير مترف تمنى وصالها فأدبرت نفوره
وصال الشعر ، وصال الكلمة عندما يحررها من سجنها القاموسي ويدخلها في عنفوان الحياة الخصبة ، فيشعل شموع من روحه للمعذبين في الأرض .

رحم الله الشاعر خالد ، والبركة فيما خلف من فن رائع جميل .